فصل: قال سيد قطب:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال القاسمي:

سورة الشمس:
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
{وَالشَّمْسِ وضحاها}
أي: ضوئها إذا أشرقت.
قال الراغب: الضحى انبساط الشمس وامتداد النهار، وبه سمي الوقت. وحقيقته- كما قال الشهاب- تباعد الشمس عن الأفق المرئي وبروزها للناظرين، ثم صار حقيقة في وقته.
وقال الإمام: يقسم بالشمس نفسها ظهرت أو غابت لأنها خلق عظيم؛ ويقسم بضوئها لأنه مبعث الحياة ومجلى الهداية في عالمها الفخيم. وهل كنت ترى حياً أو تبصر نامياً، أو هل كنت تجد نفسك، لولا ضياء الشمس، جلَّ مبدعهُ؟
{وَالْقَمَرِ إِذَا تلاها} أي: تبع الشمس، قال الإمام: وذلك في الليالي البيض، من الليلة الثالثة عشرة من الشهر إلى السادسة عشرة. وهو قسم بالقمر عند امتلائه أو قربه مع الامتلاء؛ إذ يضيء الليل كله مع غروب الشمس إلى الفجر. وهو قسم في الحقيقة بالضياء في طور آخر من أطواره، وهو ظهوره وانتشاره الليل كله.
{وَالنَّهَارِ إِذَا جلاها} أظهر الشمس. وذلك عند انتفاخ النهار وانبساطه؛ لأن الشمس تنجلي في ذلك القت تمام الانجلاء.
وفي هذه الأقسام كلها- كما قاله الأمام- إشارة إلى تعظيم أمر الضياء وإعظام قدر النعمة فيه ولفت أذهاننا إلى أنه من آيات الله الكبرى ونعمه العظمى، وفي قوله: {إِذَا جلاها} بيان للحالة التي ينطق فيها النهار بتلك الحكمة الباهرة والآية الظاهرة، وهي حالة الصحو، أما يوم الغيم الذي لا تظهر فيه الشمس، فحاله أشبه بحال الليل الذي يقسم به في قوله: {وَاللَّيْلِ إِذَا يغشاها} أي: يغشى الشمس ويعرض دون ضوئها فيحجبه عن الأبصار. وذلك في ليالي الظلمة الحالكة المشار إليها بقوله في الآية المتقدمة: {وَلَيَالٍ عَشْرٍ} [الفجر: 2]، على القول الأخير.
قال الإمام: ولقلة أوقات الظلمة عبَّر في جانبها بالمضارع لا مفيد للحاق الشيء وعروضه متأخراً عما هو أصل في نفسه. أما النهار فإنه يجلي الشمس دائماً من أوله إلى آخره؛ وذلك شأن له في ذاته، ولا ينفك عنه إلا لعارض كالغيم أو الكسوف قليل العروض.. ولهذا عبَّر في جانبه بالماضي المفيد لوقوع المعنى من فاعله، بدون إفادة أنه مما ينفك عنهُ.
{وَالسَّمَاء وَمَا بناها} أي: ومن رفعها، وصيّرها بما فيها من الكواكب، كالسقف أو القبة المحكمة الزينة المحيطة بنا. فـ {مَا} موصولة بمعنى من أوثرت لإرادة الوصفية، أي: والقادر الذي أبدع خلقها.
قالوا: وذكر {وَمَا بناها} مع أن في ذكر {السَّمَاء} غنية عنهُ، للدلالة على إيجادها وموجدها صراحة.
{وَالْأَرْضِ وَمَا طحاها} أي: بسطها من كل جانب، لافتراشها وازدراعها والضرب في أكنافها.
قال الإمام: وليس في ذلك دليل على أن الأرض غير كروية، كما يزعم بعض الجاهلين، أي: بتحريفه الكلم عن معناه المراد منه.
{وَنَفْسٍ وَمَا سواها} أي: خلقها فعدل خلقها ومزاجها، وأعدها لقبول الكمال:
{فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وتقواها} أي: أفهمها إياهما، وأشعرها بهما، بالإلقاء الملكي والتمكين من معرفتهما، وحسن التقوى وقبح الفجور بالعقل الهيولاني.
لطيفة:
جوز في {مَا} كونها مصدرية في الكل، ولا يضرهُ خلو الأفعال من فاعل ظاهر ومضمر إذ لا مرجع له. وعطف الفعل على الاسم لأنه يكفي لصحة الإضمار دلالة السياق وهي موجودة هنا، وأن العطف على صلة {مَا} لا عليها مع صلتها. فكأنه قيل: ونفس تسويتها، فإلهامها إلخ. وعطف الفعل على الاسم ليس بفاسد. نعم في الوجه الأول توافق القرائن وهو أسدّ. وأما الثاني فوجه يتسع النظم الكريم لهُ. وأما تنكير {نَفْسٍ} فللتكثير أو التعظيم.
{قَدْ أَفْلَحَ مَن زكاها وَقَدْ خَابَ مَن دساها كَذَّبَتْ ثَمُودُ بطغواها إِذِ انبَعَثَ أشقاها} [9- 12]
{قَدْ أَفْلَحَ مَن زكاها} أي: زكى نفسه وطهرها من رجس النقائص والآثام، أو نمّاها بالعلم والعمل والوصول إلى الكمال وبلوغ الفطرة الأولى: {وَقَدْ خَابَ مَن دساها} أي: أخملها ووضع منها، بخذلانه إياها عن الهدى حتى ركب المعاصي وترك طاعة الله تعالى. هذا ما قاله ابن جرير: وقال غيره: أي: نقص تزكيتها وأخفى استعدادها وفطرتها التي خلقت عليها بالجهالة والفسوق. وهو مأخوذ من: دسّ الشيء في التراب، أي: أدخله فيه وأخفاه. وأصل دسَّى دسَّسَ. كتقضّى البازي. وجملة {قَدْ أَفْلَحَ} إلخ جواب القسم وحذف اللام للطول.
قال القاضي: وكأنه لما أراد به الحث على تكميل النفس والمبالغة فيه، أقسم عليه بما يدلهم على العلم بوجود الصانع ووجوب ذاته وكمال صفاته الذي هو أقصى درجات القوة النظرية ويذكرهم عظائم الإله ليحملهم على الاستغراق في شكر نعمائه الذي هو منتهى كمالات القوة العملية.
وذهب الزمخشري إلى أن هذه الجملة كلام تابع لقوله: {فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وتقواها} على سبيل الاستطراد. وجواب القسم محذوف تقديره: ليُدَمْدِنّ الله عليهم، أي: على أهل مكة لتكذيبهم رسول الله صلى الله عليه وسلم كما دمدم على ثمود، لأنهم كذبوا صالحاً عليه السلام.
وقد دل عليه قوله تعالى: {كَذَّبَتْ ثَمُودُ بطغواها} أي: بسبب طغيانها ومجاوزتها الحدّ في الفجور. فالطغوى مصدر. وجوز أن يراد به العذاب نفسه، على حذف مضاف أو بدونه مبالغة كما يوصف بغيره من المصادر، أي: كذبت بما أوعدت به من عذابها ذي الطغوى، كقوله: {فَأُهْلِكُوا بِالطَّاغِيَةِ} فالطغوى على هذا من التجاوز عن الحدّ والزيادة في العذاب. والباء صلة {كَذَّبَتْ} وقوله تعالى: {إِذِ انبَعَثَ أشقاها} ظرف لـ: {كَذَّبَتْ} أو طغوى، أي: حين قام وأشقى ثمود لعقر ناقة صالح عليه السلام. وكانوا نهوا عن مسّها بسوء، وأنذروا عاقبة المخالفة، كما قال تعالى: {فَقَالَ لَهُمْ رسول اللّه} يعني صالحاً عليه السلام لقومه.
{نَاقَةَ اللَّهِ وسقياها} أي: احذروا واتقوا ناقة الله التي جعلها آية بينة وشربَها، الذي اختصه الله به في يومها. وكان عليه السلام تقدم إليهم عن أمر الله أن للناقة شرب يوم ولهم شرب يوم آخر، غير يوم الناقة، كما بينته آية الشعراء قال: {هَذِهِ نَاقَةٌ لَّهَا شِرْبٌ وَلَكُمْ شِرْبُ يَوْمٍ مَّعْلُومٍ وَلَا تَمَسُّوهَا بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابُ يَوْمٍ عَظِيمٍ} [الشعراء: 155- 156]، أي: لا تؤذوا الناقة ولا تتعدوا عليها في شربها ويوم شربها {فَكَذَّبُوهُ} أي: فيما حذرهم منه من حلول العذاب إن فعلوا {فَعَقَرُوهَا} أي: قتلوها.
قال في (النهاية): أصل العقر ضرب قوائم البعير أو الشاة بالسيف وهو قائم. ثم اتسع حتى استعمل في القتل والهلاك، وذلك أنهم أجمعوا على منعها الشرب ورضوا بقتلها.
وعن رضا جميعهم قتلها قاتلها وعقرها من عقرها؛ ولذلك نسب التكذيب والعقر على جميعهم {فَدَمْدَمَ عَلَيْهِمْ رَبُّهُم بِذَنبِهِمْ فسواها} أي: أهلكهم وأزعجهم بسبب كفرهم به وتكذيبهم رسوله وعقرهم ناقته، استهانةً به واستخفافاً بما بعث به.
وقيل: دمدم أطبق عليهم العذاب.
وقيل: الدمدمة حكاية صوت الهدة {فسواها} أي: فسوى الدمدمة عليهم جميعاً، فلم يفلت منهم أحد.
بمعنى جعلها سواء بينهم أو الضمير لثمود، أي: جعلها عليهم سواء {وَلَا يَخَافُ عقباها} أي: لا يخشى تبعة إهلاكهم لأنه العزيز الذي لا يغالب.
قال الشهاب: أي: لا يخاف عاقبتها كما يخاف الملوك عاقبة ما تفعله؛ فهو استعارة تمثيلية لإهانتهم وأنهم أذلاء عند الله. فالضمير في {يَخَافُ} لله وهو الأظهر. ويجوز عوده للرسول صلى الله عليه وسلم أي: أنه لا يخاف عاقبة إنذاره لهم وهو على الحقيقة، كما إذا قيل: الضمير للأشقى، أي: أنه لا يخاف عاقبة فعله الشنيع. والواو الحال أو الاستئناف.
تنبيه:
قال ابن القيم في (مفتاح دار السعادة): المقصود أن الآية أوجبت لهم البصيرة فآثروا الضلالة والكفر عن علم ويقين؛ ولهذا- والله أعلم- ذكر قصتهم من بين قصص سائر الأمم في سورة {وَالشَّمْسِ وضحاها} لأنه ذكر فيها انقسام النفوس إلى الزكية الراشدة المهتدية وإلى الفاجرة الضالة الغاوية. وذكر فيها الأصلين: القدر والشرع. فقال: {فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وتقواها} [الشمس: 8]، فهذا قدره وقضاؤه ثم قال: {قَدْ أَفْلَحَ مَن زكاها وَقَدْ خَابَ مَن دساها} [الشمس: 9]، فهذا أمره ودينه. وثمود هداهم فاستحبوا العمى على الهدى. فذكر قصتهم ليبين سوء عاقبة من آثر الفجور على التقوى، والتدسية على التزكية. والله أعلم. اهـ.

.قال سيد قطب:

سورة الشمس:
{وَالشَّمْسِ وضحاها (1) وَالْقَمَرِ إِذَا تلاها (2) وَالنَّهَارِ إِذَا جلاها (3)}
تعريف بسورة الشمس:
الدرس الأول: 1- 6 القسم بمشاهد كونية على طبيعة النفس الإنسانية:
هذه السورة القصيرة ذات القافية الواحدة، والإيقاع الموسيقي الواحد، تتضمن عدة لمسات وجدانية تنبثق من مشاهد الكون وظواهره التي تبدأ بها السورة والتي تظهر كأنها إطار للحقيقة الكبيرة التي تتضمنها السورة. حقيقة النفس الإنسانية، واستعداداتها الفطرية، ودور الإنسان في شأن نفسه، وتبعته في مصيرها.. هذه الحقيقة التي يربطها سياق السورة بحقائق الكون ومشاهده الثابتة.
كذلك تتضمن قصة ثمود، وتكذيبها بإنذار رسولها، وعقرها للناقة، ومصرعها بعد ذلك وزوالها. وهي نموذج من الخيبة التي تصيب من لا يزكي نفسه، فيدعها للفجور، ولا يلزمها تقواها: كما جاء في الفقرة الأولى في السورة: {قد أفلح من زكاها وقد خاب من دساها}..
{والشمس وضحاها والقمر إذا تلاها والنهار إذا جلاها والليل إذا يغشاها والسماء وما بناها والأرض وما طحاها ونفس وما سواها فألهمها فجورها وتقواها قد أفلح من زكاها وقد خاب من دساها}..
يقسم الله سبحانه بهذه الخلائق والمشاهد الكونية، كما يقسم بالنفس وتسويتها وإلهامها. ومن شأن هذا القسم أن يخلع على هذه الخلائق قيمة كبرى؛ وأن يوجه إليها القلوب تتملاها، وتتدبر م إذا لها من قيمة وم إذا
{وَاللَّيْلِ إِذَا يغشاها (4) وَالسَّمَاء وَمَا بناها (5)}
بها من دلالة، حتى استحقت أن يقسم بها الجليل العظيم.
ومشاهد الكون وظواهره إطلاقا بينها وبين القلب الإنساني لغة سرية! متعارف عليها في صميم الفطرة وأغوار المشاعر. وبينها وبين الروح الإنساني تجاوب ومناجاة بغير نبرة ولا صوت، وهي تنطق للقلب، وتوحي للروح، وتنبض بالحياة المأنوسة للكيان الإنساني الحي، حيثما التقى بها وهو مقبل عليها، متطلع عندها إلى الأنس والمناجاة والتجاوب والإيحاء.
ومن ثم يكثر القرآن من توجيه القلب إلى مشاهد الكون بشتى الأساليب، في شتى المواضع. تارة بالتوجيهات المباشرة، وتارة باللمسات الجانبية كهذا القسم بتلك الحقائق والمشاهد، ووضعها إطارا لما يليها من الحقائق. وفي هذا الجزء بالذات لاحظنا كثرة هذه التوجيهات واللمسات كثرة ظاهرة. فلا تكاد سورة واحدة تخلو من إيقاظ القلب لينطلق إلى هذا الكون، يطلب عنده التجاوب والإيحاء. ويتلقى عنه- بلغة السر المتبادل- ما ينطق به من دلائل وما يبثه من مناجاة!
وهنا نجد القسم الموحي بالشمس وضحاها.. بالشمس عامة وحين تضحى وترتفع عن الأفق بصفة خاصة. وهي أروق ما تكون في هذه الفترة وأحلى. في الشتاء يكون وقت الدفء المستحب الناعش. وفي الصيف يكون وقت الإشراق الرائق قبل وقدة الظهيرة وقيظها. فالشمس في الضحى في أروق أوقاتها وأصفاها. وقد ورد أن المقصود بالضحى هو النهار كله، ولكنا لا نرى ضرورة للعدول عن المعنى القريب للضحى. وهو ذو دلالة خاصة كما رأينا.
وبالقمر إذا تلاها.. إذا تلا الشمس بنوره اللطيف الشفيف الرائق الصافي.. وبين القمر والقلب البشري ود قديم موغل في السرائر والأعماق، غائر في شعاب الضمير، يترقرق ويستيقظ كلما التقى به القلب في اية حال. وللقمر همسات وإيحاءات للقلب، وسبحات وتسبيحات للخالق، يكاد يسمعها القلب الشاعر في نور القمر المنساب.. وإن القلب ليشعر أحيانا أنه يسبح في فيض النور الغامر في الليلة القمراء، ويغسل أدرانه، ويرتوي، ويعانق هذا النور الحبيب ويستروح فيه روح الله.
ويقسم بالنهار إذا جلاها.. مما يوحي بأن المقصود بالضحى هو الفترة الخاصة لا كل النهار. والضمير في {جلاها}.. الظاهر أن يعود إلى الشمس المذكورة في السياق.. ولكن الإيحاء القرآني يشي بأنه ضمير هذه البسيطة. وللأسلوب القرآني إيحاءات جانبية كهذه مضمرة في السياق لأنها معهودة في الحس البشري، يستدعيها التعبير استدعاء خفيا. فالنهار يجلي البسيطة ويكشفها. وللنهار في حياة الإنسان آثاره التي يعلمها. وقد ينسى الإنسان بطول التكرار جمال النهار وأثره. فهذه اللمسة السريعة في مثل هذا السياق توقظه وتبعثه للتأمل في هذه الظاهرة الكبرى.
ومثله: {والليل إذا يغشاها}.. والتغشية هي مقابل التجلية. والليل غشاء يضم كل شيء ويخفيه. وهو مشهد له في النفس وقع. وله في حياة الإنسان أثر كالنهار سواء.
ثم يقسم بالسماء وبنائها: {والسماء وما بناها}.. {وما} هنا مصدرية. ولفظ السماء حين يذكر يسبق إلى الذهن هذا الذي نراه فوقنا كالقبة حيثما اتجهنا، تتناثر فيه النجوم والكواكب السابحة في أفلاكها ومداراتها. فأما حقيقة السماء فلا ندريها. وهذا الذي نراه فوقنا متماسكا لا يختل ولا يضطرب تتحقق فيه صفة البناء بثباته وتماسكه. أما كيف هو مبني، وما الذي يمسك أجزاءه فلا تتناثر وهو سابح في الفضاء الذي لا نعرف له أولا ولا آخرا.. فذلك ما لا ندريه. وكل ما قيل عنه مجرد نظريات قابلة للنقض والتعديل. ولا قرار لها ولا ثبات.. إنما نوقن من وراء كل شيء أن يد الله هي تمسك هذا البناء: {إن الله يمسك السماوات والأرض أن تزولا ولئن زالتا إن أمسكهما من أحد من بعده}.. وهذا هو العلم المستيقن الوحيد!
{وَالْأَرْضِ وَمَا طحاها (6) وَنَفْسٍ وَمَا سواها (7) فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وتقواها (8)}
كذلك يقسم بالأرض وطحوها: {والأرض وما طحاها}.. والطحو كالدحو: البسط والتمهيد للحياة. وهي حقيقة قائمة تتوقف على وجودها حياة الجنس البشري وسائر الأجناس الحية. وهذه الخصائص والموافقات التي جعلتها يد الله في هذه الأرض هي التي سمحت بالحياة فيها وفق تقديره وتدبيره. وحسب الظاهر لنا أنه لو اختلت أحداها ما أمكن أن تنشأ الحياة ولا أن تسير في هذا الطريق الذي سارت فيه.. وطحو الأرض أو دحوها كما قال في الآية الأخرى: والأرض بعد ذلك دحاها أخرج منها ماءها ومرعاها. وهو أكبر هذه الخصائص والموافقات. ويد الله وحدها هي التي تولت هذا الأمر. فحين يذكر هنا بطحو الأرض، فإنما يذكر بهذه اليد التي وراءه. ويلمس القلب البشري هذه اللمسة للتدبر والذكرى.
الدرس الثاني: 7- 10 طبيعة النفس الإنسانية ودعوة لتزكيتها:
ثم تجيء الحقيقة الكبرى عن النفس البشرية في سياق هذا القسم، مرتبطة بالكون ومشاهده وظواهره. وهي إحدى الآيات الكبرى في هذا الوجود المترابط المتناسق:
{ونفس وما سواها فألهمها فجورها وتقواها قد أفلح من زكاها وقد خاب من دساها}..
وهذه الآيات الأربع، بالإضافة إلى آية سورة البلد السابقة: {وهديناه النجدين}.. وآية سورة الإنسان: (إنا هديناه السبيل إما شاكرا وإما كفورا).. تمثل قاعدة النظرية النفسية للإسلام.. وهي مرتبطة ومكملة للآيات التي تشير إلى ازدواج طبيعة الإنسان، كقوله تعالى في سورة (ص): {إذ قال ربك للملائكة إني خالق بشرا من طين فإذا سويته ونفخت فيه من روحي فقعوا له ساجدين}.. كما أنها مرتبطة ومكملة للآيات التي تقرر التبعة الفردية: كقوله تعالى في سورة المدثر: {كل نفس بما كسبت رهينة}.. والآيات التي تقرر أن الله يرتب تصرفه بالإنسان على واقع هذا الإنسان، كقوله تعالى في سورة الرعد: {إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم}
ومن خلال هذه الآيات وأمثالها تبرز لنا نظرة الإسلام إلى الإنسان بكل معالمها..
إن هذا الكائن مخلوق مزدوج الطبيعة، مزدوج الاستعداد، مزدوج الاتجاه ونعني بكلمة مزدوج على وجه التحديد أنه بطبيعة تكوينه من طين الأرض ومن نفخة الله فيه من روحه مزود باستعدادات متساوية للخير والشر، والهدى والضلال. فهو قادر على التمييز بين ما هو خير وما هو شر. كما أنه قادر على توجيه نفسه إلى الخير وإلى الشر سواء. وأن هذه القدرة كامنة في كيانه، يعبر عنها القرآن بالإلهام تارة: {ونفس وما سواها فألهمها فجورها وتقواها}.. ويعبر عنها بالهداية تارة: {وهديناه النجدين}.. فهي كامنة في صميمه في صورة استعداد.. والرسالات والتوجيهات والعوامل الخارجية إنما توقظ هذه الاستعدادات وتشحذها وتوجهها هنا أو هناك. ولكنها لا تخلقها خلقا. لأنها مخلوقة فطرة، وكائنة طبعا، وكامنة إلهاما.
وهناك إلى جانب هذه الاستعدادات الفطرية الكامنة قوة واعية مدركة موجهة في ذات الإنسان. هي التي تناط بها التبعة. فمن استخدم هذه القوة في تزكية نفسه وتطهيرها وتنمية استعداد الخير فيها، وتغليبه على استعداد الشر.. فقد أفلح. ومن أظلم هذه القوة وخبأها وأضعفها فقد خاب: {قد أفلح من زكاها وقد خاب من دساها}..
{قَدْ أَفْلَحَ مَن زكاها (9) وَقَدْ خَابَ مَن دساها (10) كَذَّبَتْ ثَمُودُ بطغواها (11) إِذِ انبَعَثَ أشقاها (12) فَقَالَ لَهُمْ رسول اللّه نَاقَةَ اللَّهِ وسقياها (13)}
وهناك إذن تبعة مترتبة على منح الإنسان هذه القوة الواعية القادرة على الاختيار والتوجيه. توجيه الاستعدادات الفطرية القابلة للنمو في حقل الخير وفي حقل الشر سواء. فهي حرية تقابلها تبعة، وقدرة يقابلها تكليف، ومنحة يقابلها واجب..
ورحمة من الله بالإنسان لم يدعه لاستعداد فطرته الإلهامي، ولا للقوة الواعية المالكة للتصرف، فأعانه بالرسالات التي تضع له الموازين الثابتة الدقيقة، وتكشف له عن موحيات الإيمان، ودلائل الهدى في نفسه وفي الآفاق من حوله، وتجلو عنه غواشي الهوى فيبصر الحق في صورته الصحيحة.. وبذلك يتضح له الطريق وضوحا كاشفا لا غبش فيه ولا شبهة فتتصرف القوة الواعية حينئذ عن بصيرة وإدراك لحقيقة الاتجاه الذي تختاره وتسير فيه. وهذه في جملتها هي مشيئة الله بالإنسان. وكل ما يتم في دائرتها فهو محقق لمشيئة الله وقدره العام.
هذه النظرة المجملة إلى أقصى حد تنبثق منها جملة حقائق ذات قيمة في التوجيه التربوي: فهي أولا ترتفع بقيمة هذا الكائن الإنساني، حين تجعله أهلا لاحتمال تبعة اتجاهه، وتمنحه حرية الاختيار في إطار المشيئة الإلهية التي شاءت له هذه الحرية فيما يختار فالحرية والتبعة يضعان هذا الكائن في مكان كريم، ويقرران له في هذا الوجود منزلة عالية تليق بالخليقة التي نفخ الله فيها من روحه وسواها بيده، وفضلها على كثير من العالمين.
وهي ثانيا تلقي على هذا الكائن تبعة مصيره، وتجعل أمره بين يديه في إطار المشيئة الكبرى كما أسلفنا فتثير في حسه كل مشاعر اليقظة والتحرج والتقوى. وهو يعلم أن قدر الله فيه يتحقق من خلال تصرفه هو بنفسه: {إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم}.. وهي تبعة ثقيلة لا يغفل صاحبها ولا يغفو!
وهي ثالثا تشعر هذا الإنسان بالحاجة الدائمة للرجوع إلى الموازين الإلهية الثابتة، ليظل على يقين أن هواه لم يخدعه، ولم يضلله، كي لا يقوده الهوى إلى المهلكة، ولا يحق عليه قدر الله فيمن يجعل إلهه هواه. وبذلك يظل قريبا من الله، يهتدي بهديه، ويستضيء بالنور الذي أمده به في متاهات الطريق!
ومن ثم فلا نهاية لما يملك هذا الإنسان أن يصل إليه من تزكية النفس وتطهيرها، وهو يغتسل في نور الله الفائض، ويتطهر في هذا العباب الذي يتدفق حوله من ينابيع الوجود..
بعد ذلك يعرض نموذجا من نماذج الخيبة التي ينتهي إليها من يدسي نفسه، فيحجبها عن الهدى ويدنسها. ممثلا هذا النموذج فيما أصاب ثمود من غضب ونكال وهلاك:
{كذبت ثمود بطغواها إذ انبعث أشقاها فقال لهم رسول الله ناقة الله وسقياها فكذبوه فعقروها فدمدم عليهم ربهم بذنبهم فسواها ولا يخاف عقباها}..
وقد وردت قصة ثمود ونبيها صالح- عليه السلام- في مواضع شتى من القرآن. وسبق الحديث عنها في كل موضع. وأقربها ما جاء في هذا الجزء في سورة (الفجر) فيرجع إلى تفصيلات القصة هناك.
{فَكَذَّبُوهُ فَعَقَرُوهَا فَدَمْدَمَ عَلَيْهِمْ رَبُّهُم بِذَنبِهِمْ فسواها (14) وَلَا يَخَافُ عقباها (15)}
فأما في هذا الموضع فهو يذكر أن ثمود بسبب من طغيانها كذبت نبيها، فكان الطغيان وحده هو سبب التكذيب. وتمثل هذا الطغيان في انبعاث أشقاها. وهو الذي عقر الناقة. وهو أشدها شقاء وأكثرها تعاسة بما ارتكب من الإثم. وقد حذرهم رسول الله قبل الإقدام على الفعلة فقال لهم. احذروا أن تمسوا ناقة الله أو أن تمسوا الماء الذي جعل لها يوما ولهم يوم كما اشترط عليهم عند ما طلبوا منه آية فجعل الله هذه الناقة آية- ولابد أنه كان لها شأن خاص لا نخوض في تفصيلاته، لأن الله لم يقل لنا عنه شيئا- فكذبوا النذير فعقروا الناقة. والذي عقرها هو هذا الأشقى. ولكنهم جميعا حملوا التبعة وعدوا أنهم عقروها، لأنهم لم يضربوا على يده، بل استحسنوا فعلته. وهذا مبدأ من مبادئ الإسلام الرئيسية في التكافل في التبعة الإجتماعية في الحياة الدنيا. لا يتعارض مع التبعة الفردية في الجزاء الأخروي حيث لا تزر وازرة وزر أخرى. على أنه من الوزر إهمال التناصح والتكافل والحض على البر والأخذ على يد البغي والشر.
عندئذ تتحرك يد القدرة لتبطش البطشة الكبرى: {فدمدم عليهم ربهم بذنبهم فسواها}..
والدمدمة الغضب وما يتبعه من تنكيل. واللفظ ذاته.. (دمدم) يوحي بما وراءه، ويصور معناه بجرسه، ويكاد يرسم مشهدا مروعا مخيفا! وقد سوى الله أرضهم عاليها بسافلها، وهو المشهد الذي يرتسم بعد الدمار العنيف الشديد..
{ولا يخاف عقباها}.. سبحانه وتعالى.. ومن ذا يخاف؟ وم إذا يخاف؟ وأنى يخاف؟ إنما يراد من هذا التعبير لازمة المفهوم منه. فالذي لا يخاف عاقبة ما يفعل، يبلغ غاية البطش حين يبطش. وكذلك بطش الله كان: إن بطش ربك لشديد. فهو إيقاع يراد إيحاؤه وظله في النفوس..
وهكذا ترتبط حقيقة النفس البشرية بحقائق هذا الوجود الكبيرة، ومشاهده الثابتة، كما ترتبط بهذه وتلك سنة الله في أخذ المكذبين والطغاة، في حدود التقدير الحكيم الذي يجعل لكل شيء أجلا، ولكل حادث موعدا، ولكل أمر غاية، ولكل قدر حكمة، وهو رب النفس والكون والقدر جميعا.. اهـ.